في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة انتقالية حاسمة، حيث برز أحمد الشرع، الرئيس الانتقالي، كرمز للتحول من العزلة إلى الاندماج الدولي. كان سقوط الأسد، بعد عقود من الحكم الاستبدادي الذي أودى بحياة أكثر من مليون شخص وتشريد ملايين آخرين، فرصة لإعادة رسم خريطة سوريا السياسية والاقتصادية.
هذا السياق يجعل زيارته إلى نيويورك، من 21 إلى 26 سبتمبر 2025، للمشاركة في الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة، حدثًا تاريخيًا؛ إذ يُعد أول حضور لرئيس سوري منذ عام 1967، عندما شارك نور الدين الأتاسي.
الزيارة تأتي بعد اتفاق مايو 2025 في الرياض مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أدى إلى إلغاء معظم العقوبات الأمريكية، مما فتح الباب أمام استثمارات أجنبية. ومع ذلك، تبقى تحديات داخلية مثل توحيد الفصائل، التعامل مع الوجود الروسي، والتوترات مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي، والهجمات الإسرائيلية في الجنوب.
هذه الزيارة ليست مجرد مشاركة رسمية، بل حملة دبلوماسية تهدف إلى تعزيز الشرعية الدولية للنظام الجديد، وجذب الدعم لإعادة الإعمار، مع التركيز على رفع العقوبات المتبقية مثل قانون قيصر.
رفع العقوبات وفتح آفاق الاستثمار ركزت لقاءات الشرع مع الجانب الغربي على تعزيز الدعم الاقتصادي والسياسي، مع التركيز على استكمال رفع العقوبات. في 22 سبتمبر، التقى الشرع بوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في فندق لوت نيويورك بالاس، حيث ناقشا وحدة الأراضي السورية واستعادة الثروات الوطنية.
هذا اللقاء يعتمد على اتفاق الرياض، الذي ألغى معظم القيود الاقتصادية، ويهدف إلى إنهاء قانون قيصر بشكل نهائي، مما سيفتح بيئة استثمارية للشركات الأمريكية في البنية التحتية والطاقة. روبيو أكد على “بناء دولة مستقرة وذات سيادة”، مشيرًا إلى الفرصة لسوريا في الاندماج الإقليمي.
كما التقى الشرع برئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في 23 سبتمبر، حيث تعهدت إيطاليا بدعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية، مع التركيز على صفقة فرنسية لتطوير ميناء اللاذقية، التي تمت مناقشتها سابقًا مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مايو 2025.
في لقاء جانبي مع ماكرون نفسه، ناقش الشرع التعاون في إعادة الإعمار، مع التأكيد على عودة سوريا إلى الجامعة العربية. هذه اللقاءات فتحت آفاقًا لاستثمارات أوروبية، بما في ذلك مباحثات بريطانية لدعم مشاريع الطاقة، وتعززت خلال قمة كونكورديا، حيث التقى الشرع بمدير الـCIA السابق ديفيد بتريوس في حوار ودي يُعد سابقة دبلوماسية.
بتريوس سأل الشرع عن رحلته من “القاعدة إلى رئاسة سوريا”، مشيرًا إلى سجنه في معسكر بوكا الأمريكي، مما يعكس تحول واشنطن من العداء إلى التعاون. بالإضافة إلى ذلك، التقى الشرع بالرئيس الأمريكي ترامب في حفل استقبال، بحضور ميلانيا ترامب، حيث أعرب ترامب عن تفاؤله بـ”علاقات طبيعية” مع سوريا الجديدة. هذه اللقاءات لم تكن رسمية فقط، بل شملت جلسات مع أعضاء الكونغرس مثل غريغوري ميكس وجين شاهين، الذين رحبوا بالشرع ودعوا إلى رفع العقوبات الكامل. كما التقى الشرع برئيس فنلندا ألكسندر ستوب، ناقشا التعاون في التنمية المستدامة.
في تصريحاته لموقع “دمشق”، أكد عصام زهير غريواتي، رئيس غرفة تجارة دمشق ورجل أعمال سوري-أمريكي، أن هذه اللقاءات تمثل “منعطفًا تاريخيًا غير مسبوق”، حيث فتحت صفحة جديدة من الاحترام المتبادل بعد سنوات الجمود.
وأضاف: “الزيارة التاريخية فاقت التوقعات، من اللقاءات الرسمية إلى التفاعل مع الجالية السورية، وستؤدي إلى نتائج ملموسة قريبًا، خاصة في إنهاء ملف العقوبات، مما يوفر بيئة استثمارية مريحة للشركات الأجنبية في البنية التحتية والصناعة والسياحة”.
وأشار إلى أن “الانفتاح بدأ قبل الزيارة، مع خطاب الرئيس في الأمم المتحدة، ويمثل سابقة تاريخية لسوريا الحرة. قطاع الأعمال السوري والسوري-أمريكي متفائل بالمرحلة المقبلة، خاصة مع تطوير بيئة الاستثمار، مما سيترجم إلى نهوض اقتصادي قريبًا”.
تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني على المستوى العربي، كانت لقاءات الشرع مكثفة، مع التركيز على التعاون الاقتصادي وتعزيز عودة سوريا إلى الجامعة العربية. في 23 سبتمبر، التقى الشرع بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي تعهد باستثمارات ضخمة في البنية التحتية، بناءً على دعم الرياض للثورة السورية.
كما ناقش مع وفد قطري، برئاسة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، خطة لتزويد سوريا بالغاز عبر تركيا، مع التأكيد على دعم الدوحة للشرع كقائد انتقالي يواجه تحديات داخلية. الإمارات والكويت شاركتا أيضًا، حيث التقى الشرع بولي عهد الكويت الشيخ صباح خالد الصباح، ناقشا التعاون في الطاقة والإعمار.
إقليميًا، التقى الشرع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في لقاء جانبي، ركز على الحدود واللاجئين، مع التأكيد على رفض أي تقسيم لسوريا. كما التقى بالملك الأردني عبد الله الثاني، الذي أعرب عن دعم عمان للوحدة السورية. هذه اللقاءات عززت الدعم الخليجي، مع التركيز على توحيد الفصائل وإعادة الإعمار، وسط مخاوف من الوجود الروسي والإيراني السابق.
في حديثه لـ”دمشق”، قال الدكتور سامر الصفدي، عضو التحالف السوري الأمريكي، إن هذه اللقاءات “شكلت لحظة سياسية حاسمة أعادت سوريا إلى صدارة المشهد العالمي”، مضيفًا: “الزيارة عززت مكانة سوريا كلاعب رئيسي، على النقيض من عزلة نظام الأسد لـ50 عامًا. الجالية السورية الأمريكية لعبت دورًا محوريًا في جمع رؤساء شركات Fortune 500 مع الوفد السوري، لمناقشة فرص الاستثمار وفتح الاقتصاد، مما سيقلل البطالة ويزيد الدخل الفردي. نسعى لتعزيز التعاون مع دمج جميع مكونات الشعب السوري، لكن التحديات تشمل رفع العقوبات بشكل كامل ومعالجة تخوفات الكونغرس من استقرار الحكومة، خاصة مع التوترات في الساحل والسويداء”.
بين الدعم والشكوك رغم النجاحات، واجهت الزيارة تحديات، خاصة من الجالية السورية الأمريكية، التي دعت إلى رفع العقوبات الكاملة ومعالجة مخاوف الكونغرس بشأن الاستقرار، مثل الأحداث في الساحل والسويداء، والتوترات مع قسد. كما أثارت مخاوف بشأن الاتفاقيات الأمنية مع إسرائيل، حيث فشلت الترتيبات بسبب مطالب إسرائيلية “عالية السقف”، كما أوضح الباحث في العلاقات الدولية محمد فواز أنه “خلال خطابه أمام الجمعية العامة في 24 سبتمبر، دافع الشرع عن وحدة سوريا، مطالبًا برفع جميع العقوبات، وانتقد إسرائيل لـ”تهديداتها المستمرة”، مشددًا على أن “القوة لن تجلب السلام لإسرائيل”. التقى الشرع بأمين الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 24 سبتمبر، ناقشا نقل مكتب الأمم المتحدة إلى دمشق، وتعزيز التعاون في العدالة الانتقالية. كما التقى بوفد من الجالية السورية اليهودية في نيويورك، وعدًا بحماية الأقليات.
أكد محمد فواز، لـ”دمشق”، أن “لقاء الشرع مع روبيو يعكس نقطة تقاء للحد من النفوذ الإيراني”، مضيفًا: “الشرع حليف استراتيجي للولايات المتحدة في قطع الخط الإيراني، لكن الرعاية الأمريكية محدودة بمصلحة إسرائيل. فشل الترتيبات الأمنية بسبب مطالب نتنياهو العالية، والملف سيظل شائكًا حتى تسوية ثلاثية. الصراع السوري-الإسرائيلي أصبح قضية إقليمية تمتد إلى الخليج، والدبلوماسية العربية ضرورية لردع إسرائيل، خاصة بعد ضربة الدوحة، لكن نهج نتنياهو يجعل التسويات غير مرجحة”.
في حديثه لـ”دمشق”، أكد الصحفي أحمد حسن، مدير مركز “القارات الثلاث”، أن “العلاقات السورية-الأمريكية تشهد تغييرات تاريخية، مع زيارة أولى منذ 60 عامًا تمثل محركًا للاندماج في مشاريع مشتركة عبر رفع العقوبات تدريجيًا”. وأضاف: “الاستراتيجية الأمريكية تعتمد على شروط صارمة مثل تحسين العلاقات مع إسرائيل ومكافحة الإرهاب، ودفع سوريا للاتفاقيات الإبراهيمية. سوريا ليست لاعبًا مؤثرًا في التحالفات الإقليمية، بل منفعلًا، مع قيادة تركيا والخليج. فشلها في فرض نفسها كعامل وظيفي قد يجعلها خاضعة لديناميكيات التحالفات دون تأثير يذكر”.
