أحمد العكلة
دمشق– بعد عقود من حكم حزب البعث، أعلنت الحكومة السورية، أمس الخميس، عن تغيير الهوية البصرية للدولة، في خطوة حملت دلالات رمزية وسياسية تهدف إلى ترسيخ حضور “سوريا الجديدة”، في وقت يعاني فيه السوريون من آثار حرب دامت أكثر من عقد وأفرزت تغيرات جذرية في البنية السكانية والهوية الوطنية والعلاقات بين الدولة والمجتمع.
يمثل هذا التحول، بحسب مراقبين، محاولة للقطيعة مع إرث الدولة الأمنية وتأسيس عقد اجتماعي جديد، حتى وإن كان التغيير محصورا حاليا في الجانب الرمزي. وأثار الإعلان الجديد جدلا واسعا في الأوساط السورية، بين من يراه خطوة ضرورية لتجاوز الماضي، ومن يعتبره محاولة سطحية لصرف الأنظار عن أزمات أكثر إلحاحا كعودة اللاجئين وإعادة الإعمار.
في هذا التقرير، تستعرض الجزيرة نت آراء شخصيات سورية حول دلالات الهوية البصرية الجديدة، وسياقاتها السياسية والاجتماعية، وتحديات المرحلة الانتقالية.
قطيعة معنوية
يرى الكاتب والصحفي السوري قحطان الشرقي أن التغيير في الهوية البصرية يتجاوز الشكل إلى المضمون. وقال للجزيرة نت إن التغيير لا يقتصر على الشكل، بل يمثل قطيعة رمزية ومعنوية مع 6 عقود من القمع والدمار الممنهج للهوية السورية.
وأوضح أن التصميم الجديد، المتمحور حول رمز طائر العُقاب، يعكس توجها لإعادة بناء الإنسان السوري، “كما أشار إليه الرئيس أحمد الشرع”. أن العُقاب، الذي كان رمزا للقوة في الفتوحات الإسلامية وما بعد الاستقلال، يجسد اليوم وحدة سوريا عبر جناحيه اللذين يرمزان إلى محافظات البلاد 14، وعناصره السفلية التي تشير إلى أقاليمها الخمسة.
وحسب الشرقي، تحمل الهوية الجديدة 5 رسائل:
الاستمرارية التاريخية.
تمثيل الدولة الجديدة.
تحرر الشعب.
وحدة الأراضي.
عقد وطني يصون كرامة المواطن.
وأكد أن التغيير فرصة لإعادة بناء سردية وطنية جامعة.
يُشار إلى أن الهويات البصرية ليست مجرد عناصر تصميمية، بل أدوات رمزية تعبّر عن هوية الدول وتوجهاتها، وتؤثر في تشكيل الوعي الجمعي، خصوصا في المجتمعات الخارجة من النزاعات.
أولويات
وبخصوص أولويات المرحلة الانتقالية، دعا زكريا ملاحفجي، الأمين العام للحركة الوطنية السورية، إلى التركيز على مضمون الدولة الجديدة “بدلا من الشكليات”. وقال للجزيرة نت: “الاهتمام بالهوية البصرية يبقى شكليا مقارنة بما هو أعمق. نحتاج إلى مضمون يعكس أداء فعّالا، وتطويرا شاملا، وتعايشا حقيقيا بين مكونات المجتمع”.
وأشار ملاحفجي إلى أن إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق مبادئ الشفافية والكفاءة والتعددية السياسية يجب أن تكون الأولوية القصوى، مضيفا أن “الهوية السورية لا تُبنى فقط بشعار جديد، بل من خلال مشروع وطني جامع يستوعب الجميع”.
ووفقا له، فإن أية هوية جديدة يجب أن تشمل ضمانات دستورية لحقوق الأقليات، وإطارا قانونيا يحفظ حرية التعبير والعدالة الانتقالية، مع ضمان عودة اللاجئين كجزء من التفاهم الوطني.
من جانبه، شدد بسام العمادي، سفير سوريا الأسبق في السويد، على ضرورة تحديث المؤسسات بما يتناسب مع التغيير الرمزي. وقال للجزيرة نت: “الخطوة ممتازة ونأمل أن تتبعها خطوات مماثلة، لأنها تعكس توجها لبناء دولة جديدة تسعى لإعادة هيكلة مؤسساتها”.
وأضاف أن الدولة السورية، رغم استمرار بعض مؤسساتها خلال سنوات الحرب، لا تزال بحاجة إلى إعادة تنظيم وظيفي وإداري يضمن الفعالية والمساءلة، مشيرا إلى ضرورة الانفتاح على الكفاءات السورية في الداخل والخارج.
تاريخيا، لم تشهد سوريا منذ الاستقلال تحولا مؤسساتيا شاملا إلا بعد انقلابات عسكرية، وكان لكل منها هوية وشعار يعكسان طبيعة النظام الجديد، مما يجعل من هذا التغيير الرمزي فرصة نادرة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
توجّه جديد
من ناحيته، عبّر المهجّر يحيى السالم، من مخيمات الشمال السوري، عن إحباطه من التركيز على الرموز في ظل معاناة المهجرين. وقال للجزيرة نت “الهوية البصرية لا تعنينا ما دمنا بعيدين عن ديارنا. الحكومة لا تولي اهتماما كافيا لعودتنا، بينما نشهد اعتداءات من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)”.
وطالب بتحقيق الاستقرار وتوحيد البلاد كأولوية “قبل الحديث عن هوية تمثل الجميع”، مشيرا إلى “مقتل طفل واعتقالات في الجزيرة السورية -المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات- كمؤشرات على استمرار التحديات الأمنية”.
يلفت هذا الصوت إلى “فجوة قائمة” بين ما يُطرح على مستوى الخطاب الرسمي، وبين ما يعيشه ملايين السوريين في مناطق النزوح، مما يعيد فتح النقاش حول جوهر مفهوم “الهوية الوطنية”.
أما الكاتب والإعلامي إبراهيم الجبين فاعتبر أن الهوية البصرية الجديدة تعبر عن توجه سياسي جديد للدولة. وقال للجزيرة نت: “نشدّد في هذه المرحلة على أن سورية الدولة وسورية المجتمع بحاجة إلى تطوير لحضورها، كما هي بحاجة إلى تطوير في خطابها وتصوراتها ومفاهيمها. والهوية البصرية الرسمية، جزء أساسي في هذا الحضور الذي عمل نظام البعث منذ العام 1963”.
وأضاف الجبين “استحوذ النظام البائد على حياة السوريين السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر وسائل السيطرة والتحكم التي طبقها بشكل ممنهج. وقد تمكنت السلطة من تطويق السوريين من كافة الأبواب بدءاً من الطفولة التي برمجتها عبر منظمات الطلائع والشبيبة ومن ثم حزب البعث بحيث بات من المستحيل عليك أن ترى في سورية شيئاً لا علاقة له بتلك الايديولوجيا التي اختطفت كل شيء حتى شعار الدولة (العقاب) ومعه العملة وجواز السفر وصولاً إلى اليونيفورم في المدارس والجامعات. وكل ذلك مسح عقول السوريين بصبغة بات من الضروري التخلص منها مع بدء العهد الجديد والجمهورية الجديدة”.
واعتبر الجبين إلى أن اتخاذ الرئيس الشرع وحكومته لقرار تغيير الهوية البصرية السورية كان قراراً في الاتجاه الصحيح، لأنه “أولاً يعكس هوية الفكر السياسي الذي تنطلق منه الدولة اليوم، وهي بلا حزب ايديولوجي حاكم كما في السابق، ومن جهة أخرى تقوم تلك الهوية ببث رسائل واضحة للداخل والخارج عن اتجاه سورية الحالي الذي رأينا أنه يتمسك بالجذور العربية انطلاقاً من تمسكه باسم الدولة (الجمهورية العربية السورية) وبشعار العقاب العربي السوري العريق وبخطط الثلث كخط رئيسي للوثائق ولرئاسة الجمهورية. وهذا البعد يعيد سورية إلى محيطها الحيوي العربي ومكانتها التاريخية كدولة عربية مركزية، بعد أن أخرجها نظام الأسد بعيداً عن العرب، وبعد أن طرحت فيها مشاريع انفصالية شعوبية تعبّر بصريح العبارة عن كراهية العرب والعروبة وتطالب بشطب كلمة “العربية” من اسم سورية، وبالمقابل تطرح كيانات عنصرية خرافية وتريد فرض شكل آخر للدولة رغماً عن إرادة الشعب السوري”.
وبين الجبين أن طرح الهوية البصرية الجديدة أثار جدلاً كان متوقعاً بين السوريين، وبدأ بعملية فرز مباشرة وقوية لمن هو منخرط في مشروع الدولة الجديدة ومن لايزال متردداً أو لديه ارتباط بشكل ما مع الماضي.
وختم قائلاً “في السياسة على الدولة الجديدة أن تعبّر عن نفسها وإرادتها وشكلها على أن يكون ذلك بوابة للإفصاح عن مشروعها السياسي، وباستكمال هياكل الدولة والتوصل إلى مجلس للشعب سيُفتح المسرح السياسي السوري على مصراعيه أو سيجري اختبار ذلك عملياً. حينها سيكون لتلك الأصوات التي اعترضت على الهوية البصرية مجال أوسع وسياق قانوني للتعبير،بعد أن رأى البعض أن تجديد الهوية البصرية هو مخالفة للمادة الخامسة من الإعلان الدستوري والتي تنص على أن “دمشق هي عاصمة الجمهورية العربية السورية، ويُحدّد شعار الدولة ونشيدها الوطني بقانون”. وقد ترد الدولة بأنها لم تغير الشعار وإنما حدثته، وربما تجيب بأنها ستطرح الهوية البصرية في أول جلسة لمجلس الشعب للتصويت عليها وإصدارها بقانون. ولكن هذا الجدل أيضا هو حالة صحية حول تفحّص دستورية القرارات من عدمها ويشيع ثقافة تعكس نهج الثورة السورية ومبادئها، وكل ذلك جزء من الحوار المفتوح المأمول أن تشهده سورية في المرحلة المقبلة”.
(الجزيرة ودمشق)